فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الفخر:

ذكر المفسرون في «الفتنة» وجوهًا، وهي محصورة في عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، ثم عذاب الدنيا أقسام: منها القحط، ومنها الوباء، ومنها القتل، ومنها العداوة، ومنها البغضاء فيما بينهم، ومنها الادبار والنحوسة، وكل ذلك قد وقع بهم، وكل واحد من المفسرين حمل الفتنة على واحد من هذه الوجوه.
واعلم أن حسبانهم أن لا تقع فتنة يحتمل وجهين: الأول: أنهم كانوا يعتقدون أن النسخ ممتنع على شرع موسى عليه السلام، وكانوا يعتقدون أن الواجب عليهم في كل رسول جاء بشرع آخر أنه يجب عليهم تكذيبه وقتله، والثاني: أنهم وإن اعتقدوا في أنفسهم كونهم مخطئين في ذلك التكذيب والقتل إلا أنهم كانوا يقولون: نحن أبناء الله وأحباؤه، وكانوا يعتقدون أن نبوّة أسلافهم وآبائهم تدفع عنهم العقاب الذي يستحقونه بسبب ذلك القتل والتكذيب. اهـ.

.قال ابن عاشور:

والفتنة مَرْج أحوال النّاس واضطرابُ نظامهم من جرّاء أضرار ومصائب متواليّة، وقد تقدّم تحقيقها عند قوله: {إنَّما نحن فتنة} في سورة البقرة (102).
وهي قد تكون عقابًا من الله للنّاس جزاء عن سوء فعلهم أو تمحيصًا لصادق إيمانهم لتعلوَ بذلك درجاتهم {إنّ الّذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات} [البروج: 10] الآية.
وسمَّى القرآن هاروت وماروت فتنة، وسمَّى النبيءُ صلى الله عليه وسلم الدجّال فتنة، وسمَّى القرآن مزالّ الشيطان فتنة {لا يفتننّكم الشيطان} [الأعراف: 27].
فكان معنى الابتلاء ملازمًا لها.
والمعنى: وظنّوا أنّ الله لا يُصيبهم بفتنة في الدّنيا جزاء على ما عاملوا به أنبياءهم، فهنالك مجرور مقدّر دالّ عليه السّياق، أي ظنّوا أن لا تنزل بهم مصائب في الدّنيا فأمنوا عقاب الله في الدّنيا بعد أن استخفّوا بعذاب الآخرة، وتوهّموا أنّهم ناجون منه، لأنّهم أبناء الله وأحبّاؤه، وأنّهم لن تمسّهم النّار إلاّ أيامًا معدودة.
فمن بديع إيجاز القرآن أن أومأ إلى سوء اعتقادهم في جزاء الآخرة وأنّهم نبذوا الفكرة فيه ظهريًا وأنّهم لا يراقبون الله في ارتكاب القبائح، وإلى سوء غفلتهم عن فتنة الدّنيا وأنّهم ضالّون في كلا الأمرين.
ودلّ قوله: {وحَسبوا أن لا تكون فتنة} على أنّهم لو لم يحسبوا ذلك لارتدعوا، لأنّهم كانوا أحرص عَلى سلامة الدّنيا منهم على السلامة في الآخرة لانحطاط إيمانهم وضعف يقينهم.
وهذا شأن الأمم إذا تطرّق إليها الخِذلان أن يفسد اعتقادهم ويختلط إيمانهم ويصير همّهم مقصورًا على تدبير عاجلتهم، فإذا ظنّوا استقامة العاجلة أغمضوا أعينهم عن الآخرة، فتطلّبوا السلامة من غير أسبابها، فأضاعوا الفوز الأبدي وتعلّقوا بالفوز العاجل فأساؤوا العمل فأصابهم العذابان العاجلُ بالفتنة والآجلُ. اهـ.

.قال الفخر:

الآية دالة على أن عماهم وصممهم عن الهداية إلى الحق حصل مرتين.
واختلف المفسرون في المراد بهاتين المرتين على وجوه: الأول: المراد أنهم عموا وصموا في زمان زكريا ويحيى وعيسى عليهم السلام، ثم تاب الله على بعضهم حيث وفق بعضهم للإيمان به، ثم عموا وصموا كثير منهم في زمان محمد عليه الصلاة والسلام فأن أنكروا نبوّته ورسالته، وإنما قال: {كَثِيرٌ مّنْهُمْ} لأن أكثر اليهود وإن أصروا على الكفر بمحمد عليه الصلاة والسلام إلا أن جمعًا منهم آمنوا به: مثل عبد الله بن سلام وأصحابه.
الثاني: عموا وصموا حين عبدوا العجل، ثم تابوا عنه فتاب الله عليهم، ثم عموا وصموا كثير منهم بالتعنت، وهو طلبهم رؤية الله جهرة ونزول الملائكة: الثالث: قال القفال رحمه الله تعالى: ذكر الله تعالى في سورة بني إسرائيل ما يجوز أن يكون تفسيرًا لهذه الآية فقال: {وَقَضَيْنَا إلى بَنِى إسراءيل في الكتاب لَتُفْسِدُنَّ في الأرض مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا * فَإِذَا جَاء وَعْدُ أولاهما بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خلال الديار وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولًا * ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الكرة عَلَيْهِمْ وأمددناكم بأموال وَبَنِينَ وجعلناكم أَكْثَرَ نَفِيرًا} [الإسراء: 4 6] فهذا في معنى {فَعَمُواْ وَصَمُّواْ} ثم قال: {فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخرة لِيَسُوءواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ المسجد كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا} [الإسراء: 7] فهذا في معنى قوله: {ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مّنْهُمْ} الرابع: أن قوله: {فَعَمُواْ وَصَمُّواْ} إنما كان برسول أرسل إليهم مثل داود وسليمان وغيرهما فآمنوا به فتاب الله عليهم، ثم وقعت فترة فعموا وصموا مرة أخرى. اهـ.
قال الفخر:
في قوله: {ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مّنْهُمْ} وجوه:
الأول: على مذهب من يقول من العرب «أكلوني البراغيث» والثاني: أن يكون {كَثِيرٌ مّنْهُمْ} بدلًا عن الضمير في قوله: {ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ} والإبدال كثير في القرآن قال تعالى: {الذى أَحْسَنَ كُلَّ شيء خَلَقَهُ} [السجدة: 7] وقال: {وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97] وهذا الإبدال هاهنا في غاية الحسن، لأنه لو قال: عموا وصموا لأوهم ذلك أن كلهم صاروا كذلك، فلما قال: {كَثِيرٌ مّنْهُمْ} دل على أن ذلك حاصل للأكثر لا للكل.
الثالث: أن قوله: {كَثِيرٌ مّنْهُمْ} خبر مبتدأ محذوف، والتقدير: هم كثير منهم. اهـ.

.قال السمرقندي:

{فَعَمُواْ وَصَمُّواْ} يعني: عموا عن الحق، وصمّوا عن الهدى، فلم يسمعوه، {ثُمَّ تَابَ الله عَلَيْهِمْ} يقول: تجاوز عنهم، ورفع عنهم البلاء، فلم يتوبوا {ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مّنْهُمْ} ويقال: معناه تاب الله على كثير منهم، {عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مّنْهُمْ} ويقال: من تاب الله عليهم، يعني: بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم ليدعوهم إلى التوراة {ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ} بتكذيب محمد صلى الله عليه وسلم، ويقال: {وَصَمُّواْ ثُمَّ} حين عبدوا العجل، ثم تاب الله عليهم بعدما قتلوا سبعين ألفًا وهذا على جهة المثل.
يعني: لم يعملوا بما سمعوا، ولم يعتبروا بما أبصروا، فصاروا كالعمي والصمي.
ثم قال: {والله بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} بقتلهم الأنبياء وتكذيبهم الرسل يعني: عليم بمجازاتهم. اهـ.

.قال الخازن:

{فعموا وصموا} يعني أنهم عموا عن الحق فلم يبصروه وصموا عنه فلم يسمعوه وهذا العمى هو كناية عن عمى البصيرة لا البصر وكذلك الصمم هو كناية عن منع نفوذ الحق إلى قلوبهم وسبب ذلك شدة جهلهم وقوة كفرهم وإعراضهم عن قبول الحق قال بعض المفسرين سبب هذا العمى والصمم عبادتهم العجل في زمن موسى عليه السلام {ثم تاب الله عليهم} يعني أنهم لما تابوا من عبادتهم العجل تاب الله عليهم {ثم عموا وصموا} يعني في زمان زكريا ويحيى وعيسى عليهم السلام لأنهم كذبوا عيسى وقتلوا زكريا ويحيى وقيل إن العمى والصمم الأول كان بعد موسى ثم تاب الله عليهم يعني ببعثه عيسى عليه السلام ثم عموا وصموا يعني بسبب الكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم {كثير منهم} من اليهود لأن بعضهم آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم مثل عبد الله بن سلام وأصحابه {والله بصير بما يعملون} يعني من قتل الأنبياء وتكذيب الرسل. اهـ.

.قال الألوسي:

وقوله تعالى: {فَعَمُواْ} عطف على {حسبوا} والفاء للدلالة على ترتيب ما بعدها على ما قبلها أي أمنوا بأس الله تعالى فتمادوا في فنون الغي والفساد وعموا عن الدين بعدما هداهم الرسل إلى معالمه وبينوا لهم مناهجه {فَعَمُواْ وَصَمُّواْ} عن استماع الحق الذي ألقوه إليهم، وهذا إشارة إلى المرة الأولى من مرتي إفساد بني إسرائيل حين خالفوا أحكام التوراة وركبوا المحارم وقتلوا شعيا، وقيل: حبسوا أرميا عليهما السلام.
{ثُمَّ تَابَ الله عَلَيْهِمْ} حين تابوا ورجعوا عما كانوا عليه من الفساد بعدما كانوا ببابل دهرًا طويلًا تحت قهر بختنصر أسارى في غاية الذل والمهانة، فوجه الله عز وجل ملكًا عظيمًا من ملوك فارس إلى بيت المقدس فعمره ورد من بقي من بني إسرائيل في أسر بختنصر إلى وطنهم وتراجع من تفرق في الأكناف فاستقروا وكثروا وكانوا كأحسن ما كانوا عليه، وقيل: لما ورث بهمن بن أسفنديار الملك من جده كستاسف ألقى الله تعالى في قلبه شفقة عليهم فردهم إلى الشام، وملك عليهم دانيال عليه السلام فاستولوا على من كان فيها من أتباع بختنصر فقامت فيه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فرجعوا إلى أحسن ما كانوا عليه من الحال، وذلك قوله تعالى: {ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الكرة عَلَيْهِمْ} [الإسراء: 6] ولم يسند سبحانه التوبة إليهم كسائر أحوالهم من الحسبان والعمى والصمم تجافيًا عن التصريح بنسبة الخير إليهم، وإنما أشير إليها في ضمن بيان توبة الله تعالى عليهم تمهيدًا لبيان نقضهم إياها بقوله سبحانه: {ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ} وهو إشارة إلى المرة الآخرة من مرتي إفسادهم وهو اجتراؤهم على قتل زكريا ويحيى وقصدهم قتل عيسى عليهم السلام، وجعل الزمخشري العمى والصمم أولًا: إشارة إلى ما صدر منهم من عبادة العجل، وثانيًا: إشارة إلى ما وقع منهم من طلبهم الرؤية، وفيه أن عبادة العجل وإن كانت معصية عظيمة ناشئة عن كمال العمى والصمم لكنها في عصر موسى عليه السلام، ولا تعلق لها بما حكي عنهم بما فعلوا بالرسل الذين جاءوهم بعده عليه السلام بأعصار، وكذا القول على زعمه في طلب الرؤية على أن طلب الرؤية كان من القوم الذين مع موسى عليه السلام حين توجه للمناجاة، وعبادة العجل كانت من القوم المتخلفين فلا يتحقق تأخره عنها، وحمل {ثُمَّ} للتراخي الرتبي دون الزماني مما لا ضرورة إليه، وقيل: إن العمى والصمم أولًا: إشارة إلى ما كان في زمن زكريا ويحيى عليهما السلام، وثانيًا: إشارة إلى ما كان في زمن نبينا صلى الله عليه وسلم من الكفر والعصيان، وبدأ بالعمى لأنه أول ما يعرض للمعرض عن الشرائع فلا يبصر من أتى بها من عند الله تعالى ولا يلتفت إلى معجزاته، ثم لو أبصره لم يسمع كلامه فيكون عروض الصمم بعد عروض العمى، وقرئ {وَصَمُّواْ ثُمَّ} بالضم على تقدير عماهم الله تعالى وصمهم أي رماهم وضربهم بالعمى والصمم، كما يقال: نزكته إذا ضربته بالنيزك، وركبته إذا ضربته بركبتك.
وقوله تعالى: {كَثِيرٌ مّنْهُمْ} بدل من الضمير في الفعلين، وقيل: هو فاعل والواو علامة الجمع لا ضمير، وهذه لغة لبعض العرب يعبر عنها النحاة بأكلوني البراغيث أو هو خبر مبتدأ محذوف أي العمى والصمم كثير منهم.
وقيل: أي العمى والصمم كثير منهم أي صادر ذلك منهم كثيرًا وهو خلاف الظاهر، وجوز أن يكون مبتدأ والجملة قبله خبره، وضعف بأن الخبر للفعلي لا يتقدم على المبتدأ لالتباسه بالفاعل، ورد بأن منع التقديم مشروط بكون الفاعل ضميرًا مستترًا إذ لا التباس فيما إذا كان بارزًا، والتباسه بالفاعل في لغة أكلوني البراغيث لم يعتبروه مانعًا لأن تلك اللغة ضعيفة لا يلتفت إليها، ومن هنا صرح النحاة بجواز التقديم في مثل الزيدان قاما لكن صرحوا بعدم جواز تقديم الخبر فيما يصلح المبتدأ أن يكون تأكيدًا للفاعل، نحو أنا قمت فإن أنا لو أخر لالتبس بتأكيد الفاعل، وما نحن فيه مثله إلا أن الالتباس فيه بتابع آخر أعني البدل فتدبر، وإنما قال سبحانه: {كَثِيرٌ مّنْهُمْ} لأن بعضًا منهم لم يكونوا كذلك.
{والله بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} أي بما عملوا وصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية استحضارًا لصورتها الفظيعة مع ما في ذلك من رعاية الفواصل، والجملة تذييل أشير به إلى بطلان حسبانهم المذكور؛ ووقوع العذاب من حيث لم يحتسبوا إشارة إجمالية اكتفى بها تعويلًا على ما فصل نوع تفصيل في سورة بني إسرائيل، ولا يخفى موقع {بَصِيرٌ} هنا مع قوله سبحانه: {عَمُواْ}. اهـ.

.قال ابن عاشور:

واستعير {عَمُوا وصَمُّوا} للإعراض عن دلائل الرشاد من رسلهم وكتبهم لأنّ العمى والصمم يوقعان في الضلال عن الطريق وانعدام استفادة ما ينفع.